الشك طبيعة بشرية وغريزية تمكن الإنسان من البقاء على قيد الحياة، ولكن ظهور الشك كفلسفة لها إطار ومفاهيم مُحدَدة، ظهر على يد فلاسفة اليونان القديمة، في الشكل الشامل والكلاسيكي الذي يجسده المشككون اليونانيون القدامى، حيث يتَحَدون بثقة ليس مجرد المعرفة الدينية أو الميتافيزيقية فحسب، بل كل ادعاءات المعرفة التي تتجاوز التجربة الحسية الفعلية. كان “بيرون Pyrrho”؛ الأب الروحي للفلسفة الشكوكية Skepticism، جندياً في جيش الإسكندر الأكبر حينما غزا المقدونيون أمماً مختلفة، وحينها أدرك بيرون، أن لكل ثقافة حقائقها ومعارفها، فلماذا تكون وجهة نظر ما أصح من الأخرى، عندما يكون لكل منهما مزاياها العملية؟ وهل تعني كثرة السالكين في مذهب ما صحته؟
ظهرت الشكوكية تقريباً في نفس الفترة التي ظهرت فيها الأبيقورية والرواقية، كان العالم اليوناني القديم في حالة فوضى بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 قبل الميلاد، حيث مات الإمبراطور في سن الثانية والثلاثين، دون وجود وريث يُضاهي قدرة الإسكندر على حُكم إمبراطورية عظيمة، في ظل غياب السلطة، عانت اليونان القديمة من بطش الديكتاتوريين المتنازعين على المنطقة، ومثل الأبيقوريين والرواقيين كان هدف الشكوكيين هو مساعدة الناس للعثور على السلام الروحي في عالم تعمه الفوضى والتخبط، جادل الشكوكيون بأنه لا يمكننا أبداً التأكد مما نعرف، واليقين مما نعتقد، وأنه يمكن تحقيق الطمأنينة (ataraxia) إذا توقفنا عن إصدار الأحكام على الأشياء دون الخوض في التجربة. الشكوكية بشكل عام، هي أي إتجاه فكري قائم على الشك خاصة فيما يتعلق بمسائل الماورائيات والدين، ويشمل أيضاً علم الأخلاق (الشكوكية الأخلاقية)، أو المعرفة (الشكوكية المعرفية).
مع بداية عصر النهضة، تأثر الفيلسوف الفرنسي “ميشيل دي مونتين”، بالفلسفة الشكوكية، فأصبح دي مونتين معروف بـ (سيد الشك)، كما اشتهر بإسهامه في إحياء الفلسفة الشكوكية اليونانية، حيث تشير مقالاته إلى مراجع للشكوكيين وخاصة بيرون مؤسس هذه الفلسفة.
يقول دي مونتين: “إن كتاباتي هذه ما هي إلا هذيان رجل لم يقدر على أكثر من تذوق القشرة الخارجية للمعرفة”. إن هذه الذاتية موجودة في صميم شكوكيته، فهو الذي صاغ شِعار (ماذا أعرف؟ Que sçay-je؟)… بالنسبة لمونتين فإن التجربة هي السبيل للوصول إلى الحكمة لا المعرفة القائمة على الفكر فقط، والفحص والتمحيص والتدقيق، عوضاً عن التسليم بحقيقة مُررت إليك. بالنسبة لمونتين كانت البديهة والتجربة مهمة بقدر أهمية المعرفة.
كان مونتين مسيحياً متديناً، وكان يعتقد بأن إيمانه لا يتعارض مع شكوكيته، بل في الواقع كانت شكوكيته هي التي وسعت آفاق إيمانه. ومع التقدم العلمي والفكري في عصر النهضة حلت المقاربات العلمية محل الأفكار الدينية المتوارثة، إلا أن دي مونتين حذّر من الإيمان بالنظريات كحقيقة مُطلقة. كما اختلف مع مفهوم “نظرية كل شيء”. إذن.. هل كان دي مونتين مناهضاً للعلم؟ إطلاقاً.. كان مونتين براغماتياً، لا مؤمناً صريحاً نسبياً، فهو لم يؤمن بحقيقة مطلقة، ولكنه آمَن بالعديد من الحقائقِ التي لها أسس عملية. فمن ناحية علمية، يرتكز المنهج العلمي على الشك.
جعلت شكوكية مونتين مواقفه تتميز بالحداثة والتكيف على نحو مدهش، فكان يعتقد بأنه ليس منطقياً، الاعتقاد بأن البشر أسمى من المخلوقات الأخرى (بالتسوية الضمنية للبشر مع الحيوانات، قبل مئات السنين بحسب داروين). وكان يعتقد بأن الغجر الموجودين في الأراضي التي استعمرها الأوروبيون، شرفاء وأخيار حسب مفاهيمهم.