يتكون الدماغ البشري من عشرات المليارات من الخلايا العصبية، ويستطيع تخزين أكثر من 70000 معلومة وإنتاج 50 ألف فكرة في اليوم. يؤلف العقل المقطوعات الموسيقية، ويحل المعادلات الرياضية، وهو أيضاً منبع الأحاسيس والمشاعر والسلوك والتجارب، ومستودع الوعي الذاتي والخبرات الإنسانية. لذلك ليس من المستغرب أن يبقى الدماغ لغزاً غامضاً في حد ذاته.
ومن ضمن الألغاز التي تتعلق بالدماغ البشري، فرضية مثيرة للجدل تدّعي أن البشر يستخدمون 10% فقط من قدرات أدمغتهم، وأن الإنسان سيصبح خارقاً للطبيعة إذا أمكنه استخدام الـ 90% الأخرى، حيث يمكنه تذكر الأرقام المعقدة أو تحريك الأشياء عن بعد. وبرغم عدم تحديد مصدر هذه الأسطورة بدقة، فقد نسبت هذه الفرضية إلى الطبيب النفسي والمؤلف الأمريكي “وليام جيمس”.
يشعر معظمنا كما لو كنا نعيش بشكل معتاد مع نوع من الغيوم التي تثقل علينا، بأقل درجة من الوضوح والقدرة على التمييز أو اليقين أو الحزم في اتخاذ القرارات. مقارنة بما يجب أن نكون عليه، نحن نصف مستيقظين، نيراننا خامدة، مسوداتنا تم فحصها. نحن نستخدم فقط جزءاً صغيراً من مواردنا العقلية والبدنية الممكنة.
وليام جيمس 1907
يمكن القول أن جيمس قد لا يعني حرفياً أننا نستخدم 10% فقط من قدرات أدمغتنا، ولكن يتوافق بيانه في الواقع مع ما نعرفه الآن عن حالات الانتباه والتدفق الذهني. ترسخت هذة الأسطوره أيضاً في الثقافة الشعبية برغم العديد من الجهود المبذولة لضحدها. كما تم طرح الفكرة في فيلم (Lucy 2014)، وتم استخدام هذه الأسطوره لإثبات أفكار علوم الطاقة.
نقد الفرضية
يقول طبيب الأعصاب باري جوردون أستاذ كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز في بالتيمور: أن هذه الأسطورة تنبع من تصورات الناس عن أدمغتهم، فهم يعتبرون قصورهم الذاتي دليلاً على وجود مادة غير مستغلة، وهذا افتراض زائف، من المعروف أن عقل الإنسان قد يكون مسترخياً في بعض المواقف، ومع ذلك، نحن نستخدم كل جزء من الدماغ تقريباً، وأن معظم أجزاء الدماغ في حالة نشاط طوال الوقت تقريباً وحتى أثناء النوم.
يشكل دماغ الإنسان 3% من كتلة الجسم، ويزن دماغ الإنسان العادي نحو 1.4 كج، ويستهلك 20% من طاقة الجسم للقيام بالوظائف الإداركية والحركية والتلقائية. وبحسب الباحثين المتخصصين في دراسة الدماغ والأعصاب، تكون معظم أجزاء الدماغ نشطة على مدار اليوم، ويتضح ذلك من خلال تقنية تصوير الدماغ.
ويقول جون هنلي عالم الأعصاب لدى مايو كلينيك بولاية مينيسوتا: تثبت الأدلة أنه على مدار اليوم، يستخدم الإنسان مئة بالمئة من الدماغ، وإنه حتى أثناء النوم، فإن بعض أجزاء الدماغ مثل القشرة الجبهية المسئولة عن التفكير وإدراك الذات، أو الأجزاء الحسية المسؤولة عن إحساس الأشخاص بالبيئة المحيطة بهم تكون نشطة أيضاً. على سبيل المثال، وبالنظر إلى عمل بسيط مثل صب فنجال القهوة في الصباح: فإن إتخاذ القرار، والسير نحو إبريق القهوة، والوصول إليه، وصب القهوة في الفنجال، وترك بعض الفراغ في الكوب لإضافة الكريمة، يتطلب أن يكون الفص القذالي والفص الجداري والقشرة الحركية الحسية والعقد القاعدية والمخيخ والفصوص الأمامية، جميعها نشطة، كعاصفة رعدية من تشابكات الخلايا العصبية تمر خلال الدماغ كله تقريباً خلال فترة زمنية لا تتجاوز بضع ثوان. ويضيف هنلي: هذا لا يعني بالضرورة أنه إذا تضرر جزء من الدماغ فلن يستطيع المرء أداء الوظائف اليومية، فهناك أشخاص أصيبوا بأضرار دماغية أو حتى تمت إزالة أجزاء من أدمغتهم ولا يزالون يحيون حياة طبيعية إلى حد كبير، ولكن يرجع هذا إلى قدرة الدماغ على التعويض والتكيف.
أحدثت تقنيات التصوير المقطعي البوزيتروني PET والتصوير بالرنين المغناطيسي ثورة في فهمنا للدماغ، في فحوصات التصوير المقطعي PET، يتم حقن جهاز تتبع إشعاعي نشط بيولوجياً (بالنسبة للدماغ، عادة ما يكون أحد أشكال الجلوكوز). يتم استقلاب التتبع من الدماغ، فيتم انبعاث البوزيترونات، وكلما كان الدماغ أكثر نشاطاً، زاد انبعاث البوزيترون. تكتشف المستشعرات البوزيترونات من خلال إشعاع غاما، وبعد ذلك يمكن للكمبيوتر إنشاء تمثيل ثلاثي الأبعاد لنشاط الدماغ بناءً على تركيزات التتبع. على هذا النحو، إذا استخدمنا 10% فقط من دماغنا، فمن المفترض أن يظهر الدماغ مظلماً بنسبة 90% بسبب عدم النشاط. وهو ما لم يثبته أبداً فحص PET، حيث يظهر الدماغ نشطاً بأكمله وبشكل مستمر حتى أثناء فترات النوم.
يدرك المتخصصون في علم الدماغ والأعصاب جيدا أن الخلايا العصبية النمطية في الوظائف المتشابهة تميل إلى أن تتصل بعضها ببعض. على سبيل المثال، تنتظم الخلايا العصبية المسؤولة عن التحكم في حركة الإبهام إلى جوار الخلايا التي تتحكم في حركة السبابة. ولذلك، عند إجراء جراحة في الدماغ، يتجنب الجراحون بحذر التجمعات العصبية المرتبطة بالحركة والرؤية والسمع، مما يسمح للدماغ بالحفاظ على أكبر قدر ممكن من وظائفه. لكن الأمر غير المفهوم حتى الآن، هو كيف يمكن لتجمعات خلايا عصبية من مناطق مختلفة من الدماغ، أن تتحد لتشكيل الوعي. حتى الآن، لا وجود لأي دليل يشير إلى ارتباط منطقة بعينها في الدماغ بالوعي، مما جعل العلماء يميلون إلى افتراض أن الوعي يمثل جهداً عصبياً جماعياً.