لا يمكن تقدير عدد الخارجين عن الإسلام في مصر بصفة رسمية، حيث يخشى الكثير ممن يترك الإسلام الجهر بمعتقده خوفاً من الملاحقة القضائية أو القتل في بلد يُعدّ من أكثر بلاد العالم تديناً بحسب دراسة لمؤسسة غالوب [1]، فيما بَيّن استطلاع لمركز بيو Peo للأبحاث أن 63% من المصريين يؤيدون عقوبة الإعدام لكل من يترك الدين الإسلامي[2]. يشير هذا الاستطلاع إلى مستوى تغلغل التشدد الديني في المجتمع المصري، بينما يُسلط قانون (ازدراء الأديان) في مصر سيفه على رقاب كل من يُعبّر عن آرائه خارج إطار الدين والشريعة الإسلامية التي تُعد المصدر الرئيسي للتشريع في مصر.
عقب ثورة 25 يناير 2011 ازدادت قضايا ازدراء الأديان في المحاكم القضائية المصرية بوتيرة سريعة نتيجة للزخم الذي أحدثته الثورة فيما يخص حرية الرأي والتعبير، فتخطى مفهوم الثورة سياقه السياسي، فظهرت أقلية الملحدين والخارجين عن الإسلام من رحم الثورة على أمل لتحقيق مطالبهم والحق في التعبير والظهور دون ملاحقة قضائية، والمطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية (الزواج المدني، حذف خانة الديانة من بطاقة الهوية، تحجيم دور الأزهر…). إلا أن الوضع بات مأساوياً كما كان قبل الثورة على الصعيد السياسي والإنساني، فسرعان ما خفت بريق الثورة وسقطت أهدافها (عيش، حرية، عدالة اجتماعية). فقد وثقت المنظمة الحقوقية (المبادرة المصرية للحقوق الشخصية) عدد المحاكمات القضائية التي تتعلق بتهمة ازدراء الأديان عقب ثورة 25 يناير 2011 وحتى سنة 2013 بـ 63 قضية، بمعدل 21 قضية سنوياً. وازدادت حتى 30 قضية في 2016 فقط.
ينص الدستور المصري في المادة 98 فقرة 2 من قانون العقوبات على:
“يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز 5 سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تتجاوز 1000 جنيه لكل من استغل الدين فى الترويج أو التحبيذ بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة، بقصد إثارة الفتنة أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية.”
مادة 98 فقرة 2 من قانون العقوبات
يصف الحقوقيون مادة ازدراء الأديان بالمادة (المطاطة) أو المراوغة نظراً لما تتضمنه من معاني فضفاضة (استغلال، الترويج، أفكار متطرفة، إثارة الفتنة، ازدراء، إضرار بالوحدة الوطنية). وهو ما يُعطي مساحة للجهات الأمنية والقضائية بتأويل النص الدستوري بناءً على تلك المفردات، واستهداف أصحاب الرأى وإلصاق التهم، خاصة مع تدخل القناعات الشخصية الدينية لدى الجهات المنوط بها التحقيق والبت في تلك القضايا في ظل مناخ سائد يتسم بالتشدد والتعصب الديني.
ويبدو أن هناك تناقض وتعارض واضح بين المادتين 64 و 65 في قانون الحريات حيث تكفلان حرية الاعتقاد والفكر والرأي والتعبير، وبين مادة 98 في قانون العقوبات والتي تتعلق بعقوبة ازدراء الأديان التي قد تصل إلى عقوبة بالسجن 5 سنوات.
“حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون.”
مادة 64
“حرية الفكر والرأى مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر.”
مادة 65
إذن حرية الاعتقاد مكفولة وفقاً للمادة 64، وهذا يشمل بطبيعة الحال تغيير أو ترك الدين، وبناءً عليه، فإن لك الحق في التعبير عن معتقداتك بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير وفقاً للمادة 65. ولكن في المادة 98 تصبح فجأة محل الاتهام والملاحقة بذريعة أن أفكارك متطرفة وتهدد الوحدة الوطنية وسلامة الكرة الأرضية.
أصبح ازدراء الأديان جريمة يعاقب عليها القانون، بعد أن قدمت الحكومة مقترحاً للبرلمان في نهاية عام 1981، عقب حادثة عنف طائفي دموي في حي الزاوية الحمراء في القاهرة، حيث قُتل عشرات المسيحيين. وبرغم الظروف التي أحاطت بذلك المقترح إلا أن القضية لها أبعاد أخطر بكثير وهو ما يكمن في الشريعة الإسلامية التي يتبناها الدستور المصري كمصدر رئيسي للتشريع.
“الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.”
مادة 2
يحفل التاريخ الإسلامي بالكثير من قضايا الإرهاب والتكفير والقتل والاضطهاد على مر التاريخ، فقد صُلب الحلاج، وقُتل ابن المقفع، وقتل عماد الدين النسيمي، وسُجن الرازي وتم ضربه حتى أصابه العمى، وكُفر واُضطهد الكندي وابن سينا والمعري وابن رشد، واُغتيل المفكر المصري فرج فودة من قبل إرهابي ينتمي إلى الجماعة الإسلامية بعد تكفير الأزهر له، وقُتل الشيعي المصري حسن شحاته حرقاً بدم بارد من قبل الأهالي، واُغتيل المفكر الأردني ناهض حتر، ومحاولة اغتيال الأديب المصري نجيب محفوظ. فنصوص الشريعة الإسلامية تأمر بقتل كل من يخرج عن الدين أو عن سياقه التشريعي. كذلك هي عقيدة الجماعات التكفيرية المستمدة من تلك النصوص، وحتى تارك الصلاة يقتل بحسب ابن تيمية الملقب بشيخ الإسلام.
جدير بالذكر أن اضطهاد المفكرين والعلماء لم يكن بدعة المجتمعات الإسلامية، كذلك عانت أوروبا في العصور الوسطى قرابة 1000 سنة، نتيجة لسطوة الكنيسة على المجتمع آنذاك، وقيادتها محاكم التفتيش الدينية التي خلقت صراعاً بين الكنيسة والعِلم، باعتباره ضرباً من ضروب السحر والشيطان، وضلوعها في قتل “هيباتيا” قتلاً دموياً بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد، وسجن “غاليليو غاليلي” بعد محاكمته بتهمة الهرطقة، بعدما صرح بنظريته مركزية الشمس، ما أثار حفيظة الكنيسة باعتبارها لاكتشافه ضد فكرة اللاهوت. قبل تجاوز الغرب لفترة العصور المُظلمة، مروراً بعصر التنوير (عصر النهضة)، الذي أحدث تغييراً جوهرياً على مستوى السياسة والاقتصاد والدين، بالإضافة إلى حركة الاصلاح الديني البروتستانتي.
وفي جدلية السبب والنتيجة، يطرح الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت الفلسفة (الوضعية) في تصوره عن المراحل الثلاث لتطور المجتمعات: (اللاهوت، الغيبيات، الوضعية)، بافتراض أن التقدم مرهون بالتخلي عن اللاهوت (الدين) مستعيضاً عنه بالعلوم الاجتماعية لتنظيم أمور المجتمع وتحديد القيم ووضع القوانين. وهو ما يُشير إلى النظام العلماني الذي تتبناه العديد من الدول كنظام سياسي واجتماعي. تلعب العوامل الدينية دوراً محورياً في تأجيج العنف والإرهاب والعنصرية، وعلى الرغم من ذلك، أثبتت بعض نماذج المجتمعات المسيحية العلمانية نجاحها الاقتصادي، وتحقيقها للسلام والتناغم المجتمعي، على الرغم من أن هذه المجتمعات لم تتخل عن الدين في جوهره، بل وضعته في مساره الصحيح كمسألة إنسانية خاصة لا يجب وضعها في الإطار السياسي. كذلك أثبتت إسرائيل نجاحها في احترام حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد، رغم أن نصوص الشريعة اليهودية تأمر أيضاً بقتل المرتد والزناة. فاحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد مسألة إنسانية من الدرجة الأولى قبل أن تكون مسألة دينية أو سياسية.
المصادر: