لوحة العشاء الأخير لوحة جدارية تاريخية من أعمال الفنان الإيطالي الأكثر شهرة ليوناردو دافنشي Leonardo Da Vinci، تم رسمها على أحد جدران قاعة الطعام في دير سانتا ماريا Monestir de Santa Maria de Ripoll، في ميلان، إيطاليا. وقد قام دافنشي برسم هذه اللوحة بناءً على رغبة عمدة ميلان لودوفيكو سفورزا، في عام 1495. احتاج دافنشي لثلاثة أعوام حتى يتم الانتهاء من رسم اللوحة على أكمل وجه. وتُعتبر لوحة العشاء الأخير أشهر لوحة على مر العصور، وأكثر لوحة تم إصدار نسخ مشابهة لها. العشاء الأخير وفقاً للعهد الجديد في الإنجيل، هو عشاء عيد الفصح اليهودي، وكان آخر ما احتفل به يسوع مع تلاميذه، وقدم فيه يسوع خلاصة تعاليمه، قبل أن يتم اعتقاله ومحاكمته وصلبه، ويعتبر هذا الحدث شديد الأهمية في العقيدة المسيحية، حيث تأسس من وحيه سر القربان والتناول.
تتميز لوحة العشاء الأخير بكبر حجمها ودقة تفاصيلها، حيث يبلغ عرضها 8.83 متراً، وارتفاعها 4.57 متراً. وتتميز اللوحة بالدقة المتناهية حيث يظهر بوضوح تعبيرات وجوه جميع الأشخاص في اللوحة بشكل واضح ودقيق، كما أن جميع عناصر اللوحة تشير إلى المنتصف، حيث يجلس يسوع. لم يرد دافنشي أن تكون اللوحة تقليدية، ولذلك لم يستخدم طريقة الرسم بالجبص الرطب، بل قام بإعادة استخدام أحد الطرق القديمة وهي الأصباغ المائية، ولكن لم يكن يعلم دافنشي في ذلك الوقت بأن هذه الألوان تتلاشى مع مرور الزمن، فتعرضت اللوحة لعوامل التعرية بعد فترة من الزمان، وخضعت لعملية ترميم. عند مشاهدة اللوحة في موقعها الأصلي بدير سانتا ماريا، يظهر بوضوح أن جزء من اللوحة مفقود وتحديداً الجزء أسفل وسط اللوحة حيث يضع المسيح قدميه. بعد فترة أراد القائمون على الدير إضافة باب للقاعة، فوقع اختيارهم على منتصف الجدار الذي رسم عليه اللوحة، ولذلك أخذ الباب جزءاً من اللوحة.
شيفرة دافنشي
شكلت لوحة العشاء الأخير عدد كبير من نظريات المؤامرة والنظريات السرية كتلك الواردة في رواية “شيفرة دافنشي” لـ “دان براون”. وكتاب “سر فرسان الهيكل” لـ “لين بيكنيت” و “كليف برينس”. كما تم رفع العديد من الدعاوى القضائية ضد هذه التحفة الفنية. ودار نقاش حاد حول الشخصية المجاورة للمسيح من جهة اليسار، هل هو يوحنا أم مريم المجدلية، فيؤكد الأغلبية على كون الشخصية ترجع إلى يوحنا، حيث تخص اللوحة المسيح وحوارييه الاثني عشر، ولا يمكن أن يستثنى أحداً منهم دون تفسير مقنع، وأن وجه يوحنا الأنثوي يُشير إلى صغر سنه، حيث كان شائعاً في ذلك العصر رسم حدیثي الإیمان بمظاھر أنثویة. بينما یمكن القول باختصار أن معظم هذه النظريات غیر مؤكدة بدراسات علمیة.
كان ليوناردو دافنشي (1452 – 1519)، رساماً ومهندساً وعالم نبات وجيولوجياً وموسيقياً ونحاتاً. حيث كان دافنشي رجلاً عبقرياً استطاع أن يجسد روح عصر النهضة كاملاً من خلال أعظم نماذج التعبير في مختلف مجالات الفن والمعرفة، فكانت عبقريته بمثابة التجسد الإنساني المثالي لعصر النهضة، وكان من ضمن هذه النماذج لوحة العشاء الأخير.
مجموعات لوحة العشاء الأخير
تم تحديد هويات الأشخاص المرسومين من دفاتر ملاحظات ليوناردو دافنشي، وهم مرتبون ضمن أربع مجموعات كل مجموعة تتضمن ثلاثة أشخاص، بحسب ردود أفعالهم كالتالي (من اليسار إلى اليمين):
المجموعة الأولى: “بارثولماوس”، و “يعقوب الصغير”، و “أندراوس”، وكلهم يبدون متفاجئين.
المجموعة الثانية: “يهوذا الإسخريوطي” يتراجع بظهره إلى الخلف، وبجواره “بطرس” يحمل سكيناً ويبدو غاضباً، بينما يظهر “يوحنا” أصغر الحواريين بوجه طفولي حزين.
المجموعة الثالثة: “توما” يبدو منزعجاً، و “يعقوب” يبدو مصدوماً، و “فيليبس” وكأنه يطلب تفسيراً.
المجموعة الرابعة: “يهوذا”، و “تداوس”، و “متى” يلتفتان إلى “سمعان” وكأنهم يبحثون عن إجابات.
عناصر لوحة العشاء الأخير
تُجسد لوحة العشاء الأخير اثني عشر شخصاً تظھر علیھم ملامح وتعبيرات مختلفة مثل الخوف والغضب وعدم التصدیق، بشكل حي وإنساني، بينما يظهر المسيح بتعبير هادئ يوحي بالعظمة.
المسيح: يمثل المسيح القلب النابض بين شخصيات اللوحة كما في اللوحات الدينية من هذا النوع، إذ تجتمع في هيئته عدة خصائص فنية ومعمارية. يمثل رأس المسيح نقطة تختفي عندها كل خطوط المناظير، مما جعل من لوحة العشاء الأخير نموذجاً يلخص الخطوط المنظورية التي تميز بها فن عصر النهضة. كما تظهر إيماءت المسيح الرزينة نحو قربان الخبز والنبيذ المقدس.
يهوذا الاسخريوطي: في معظم الأعمال التي تمثل العشاء الأخير يظهر يهوذا منفصلاً وبعيداً، ويقع رأس يهوذا في موضع أخفض من الآخرين، وهو الشخص الوحيد في اللوحة الذي لا يملك هالة قداسة، حيث وضعه دافنشي في الظل. وفي بعض اللوحات الأخرى یجلس يهوذا الاسخريوطي منفصلاً وبعیداً عن الآخرین، ولكن وضع دافنشي الجميع معاً ليواجهو الناظر إلى اللوحة، رغم ذلك، يمكنك تمييز يهوذا عن غيره بسهولة، فهو يقبض على كيس صغير يرمز إلى قطع الفضة المائة التي حصل عليها من اليهود لخيانة المسيح، كما نلاحظ أنه أسقط مملحة الطعام، وهو عنصر يرمز إلى الخيانة.
التواصل: استخدم دافنشي تقنيات جديدة لإيصال أفكاره للناظر، فبدلاً من الاعتماد على التقالید الفنیة، فقد استوحى الوجوه من أشخاص عادیین كان یلتقیھم في الطریق. كما استخدم لغة الإشارة. ومن اللافت للنظر أن الفنان رافاييل رسم ليوناردو دافنشي في لوحة مدرسة أثينا في عام 1511، يقوم برفع سبابته بطريقة مطابقة لرسم دافنشي للقديس توما في العشاء الأخير.
الرمزية الرياضية: تلميحات الرقم (3) في لوحة العشاء الأخير تُشير إلى (الثالوث المقدس). الحواريون يجلسون في مجموعات من ثلاثة أشخاص، وتوجد ثلاث نوافذ، وتتشكل هيئة المسيح يحددها الرأس والذراعان الممدودتان.
مثلثا الطبيعة الصامتة: على المائدة يرى الناظر التطريز على غطاء الطاولة وكؤوس النبيذ الشفافة وأطباق القصدير وقناني الماء بجانب الطبق الرئيسي (البط مع صلصة البرتقال). كل هذه التفاصيل كانت بداية فن الطبيعة الصامتة الذي أتمه رسامو (المدرسة الواقعية) في ألمانيا في القرن السابع عشر.
النقاش والجدل حول لوحة العشاء الأخير
أثارت لوحة العشاء الأخير الكثير من الجدل والتساؤلات حول منظور ومفهوم ورمزية اللوحة ومعتقد ليوناردو دافنشي الشخصي، حيث تضمنت اللوحة العديد من العناصر التي لا تنتمي إلى المفاهيم المسيحية التقليدية التي تم رسم اللوحة للتعبير عنها. ويعتقد البعض أن هذه اللوحة إضافة إلى العديد من أعمال دافنشي تتضمن إشارات ورموز خاصة تشير إلى عقيدة سرية مخالفة للعقيدة المسيحية الكاثوليكية، والتي كانت الكنيسة الأعلى سلطه في ذلك العصر.
وقد أثيرت الكثير من الأسئلة حول شخصية “يوحنا” في لوحة العشاء الأخير، والذي كان يجلس بجانب المسيح، وقد رأي البعض أن هذا الشخص هي “مريم المجدلية”. ولكن عادة ما يصور معظم الفنانين المعاصرين لدافنشي “يوحنا” من وحي التقليد الكنسي في لوحاتهم على أنه شاب يافع ذو ملامح أنثوية ولم تنبت لحيته بعد، كعادة رسم شبان إيطاليا في ذلك الوقت، كما تظهر بعض اللوحات الرسل الآخرين أيضاً بمظهر أنثوي.
وكانت أحد الشخصيات المحورية في اللوحة هي شخصية “يهوذا الإسخريوطي” الخائن الذي سلم المسيح إلى اليهود والرومان، وكان موقعه الشخص الخامس من اليسار، وقد تعمد دافنشي رسم وجه يهوذا في الظل، بينما ظهر “بطرس” خلف يهوذا مباشرة بلحية بيضاء ووجه غاضب، متحدثاً إلى “يوحنا المعمدان” ويميل برأسه مستمعاً إلى بطرس.