المادية Materialism رؤية فلسفية ترى أن الشيء الوحيد الذي يمكن التأكيد على وجوده هو المادة، باعتبار أن جميع الأشياء مكونة أساساً من المادة. تعتقد الفلسفة المادية أن المادة أولية، وأن العقل (الوعي) ثانوي، أي أن الوعي في تصور الفلسفة المادية ينتج عن المادة وليس العكس. ومن أهم ممثلي الفلسفة المادية الفيلسوف الألماني لودفيج فويرباخ Ludwig Feuerbach. ويمكن فهم تاريخ تطور المدرسة المادية بمقابلتها مع التوجهات التي تعتقد في كينونات غير مادية متعلقة بعالم العقل كما في توجهات الفلسفة المثالية.
ومن أشكال الفلسفة المادية (الميكانيكية)، والمادية الديالكتيكية أو (الجدلية) التي أسسها كارل ماركس وفردريك أنجلز، من وحي تنظيرات فيورباخ التي تميل إلى المذهب الطبيعي الذي كان في طور المادية الميكانيكية آنذاك. اعتمدت المادية في تطورها على الاكتشافات العلمية الحديثة، حيث تُعد المادية أكثر النظريات الفلسفية القائمة على العلوم. تهدف المادية إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة باستخدام الفلسفة والعلم، وتجميع المعارف العلمية المختلفة لتشكل صورة واقعية للعالم المادي.
تاريخ الفلسفة المادية
ظهر الفكر المادي في مع ظهور الرؤية النيوتنية للكون، وعالم نيوتن المحكم والمغلق والذي يتسم بالحتمية الميكانيكية. فقد استند تفسير العالم بحسب نيوتن إلى آليات الوجود الفيزيائي للذرة (الجزئيات، وقوانين الحركة). ومن هنا، ظهرت النظرة العلمية المادية التي اعتقدت أنه لا يمكن الحديث عن تأملات خارج معامل البحث ونتائج التجريب. وقد ظلت هذه الرؤية سائدة تماماً حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الهجوم على هذا النظام المغلق والسببية الصلبة، فقد أدت نظرية الكم (الكوانتم Quantum)، ونظرية النسبية إلى إضعاف قيمة الافتراضات المادية مثل الجبرية، والسببية، وتجريدية الفضاء والزمان.
فقد تبين أن ثمة وجوداً لا مادياً للطاقة الذرية (الوجود الموجي)، وتصرف الضوء في مواضع تجريبية باعتباره مكوناً من جزيئات وحزم ضوئية (فوتونات)، وفي مواضع تجريبية أخرى يتصرف باعتباره مكوناً من موجات. وقد توصلت النتائج التجريبية إلى صيغة رياضية تفسر ما هو مادي، وما هو فوق المادي على مستوى المادة في نفس الوقت (ما يطلق عليه معادلة دي برولى). وهذا يعني ببساطة أن لكل كيان مادي موجة مصاحبة له، وأن تلك الموجة تزيد كلما صغرت كتلة تلك المادة، أي أن اللامادي موجود في قلب المادي.
المادية في العصر الحديث
أسقط العلم الحديث تدريجياً فكرة السببية الصلبة القديمة، ولم يعد يطمح إلى معرفة الكون معرفة كاملة كما كان يطمح علماء القرن التاسع عشر. فبعد مئة عام من التجارب العلمية، اكتشف الإنسان أنه كلما فهم شىء ما، تظهر أشياء جديدة غير مفهومة ولا يمكن السيطرة عليها، على سبيل المثال، اكتشاف الذرة، هذا الشىء الذى يتحرك دون قانون مُحدد ويصعب رصده، وكلما يتم رصده، يتم اكتشاف عناصر جديدة محيرة. إن السببية الصلبة المطلقة التي لا يزال يتمسك بها بعض علماء الإنسانيات، لم يعد لها سنداً علمياً، وخاصة مع ظهور نظرية الفوضى Chaos، والتي تعد ضربة أخرى للعالم المادي المغلق والصامت.
نقد الفلسفة المادية
ادعت الفلسفة المادية منذ نشأتها، أن المادي هو ما تدركه الحواس، وأن ما لا تدركه الحواس غير مادي، وبالتالي ما لا تدركه الحواس يعتبر غير موجود، ولاحقاً وبالنظر إلى أن الذرات والجزيئات لا تدرك بالحواس وبعضها لا كتلة له، وأن حركة الذرة لا تتبع نمطاً محدداً، فقد أعيد تعريف المادي بأنه كل شيء له وجوداً موضوعياً، أي إنه الشيء الذي لا يعتمد في وجوده على العقل أو الوعي به، وبهذا المعنى الجديد، فإن الفلسفة المادية لا يمكنها أن تستبعد العناصر الغير مادية إن كان لها وجوداً موضوعياً في الواقع، وهذه النتائج الجديده تعود بنا إلى نقطة البداية.
تدعي الفلسفة المادية أنها ليست حركة أيديولوجية بل علم طبيعي، وهذا يفترض أن الفلسفة المادية قد قامت بحصر كل المتغيرات المادية والموضوعية ورصدها في علاقاتها المتشعبة، وأثبتت صحة افتراضاتها. في حين أن العلم التجريبي يتصف بالمحدودية، ولا يستطيع أن يتعامل مع كل أنواع التجارب وجوانبها، فالأساليب التجريبية أساليب تقريبية، وهى نتائج تنطبق في المتوسط، أي على مجموعات كبيرة، ولا تنطبق على كل مفرد. الفلسفة المادية تفسر الواقع بناءً على ميتافيزيقة مادية تستند إلى الإيمان بوجود كل مادي ثابت ومتجاوز للأجزاء وله هدف وغاية، في حين أن الثبات والتجاوز والهدف ليس من صفات المادة.
أصبحت مسألة أزلية المادة غير مفهومة بشكل كامل، فالطاقة لا تفنى، والمادة تتحول إلى طاقة، والطاقة تتحول إلى مادة. فقابلية المادة للتحول تعنى أن بقاءها في هيئتها الحالية يعتمد على ظروف خارجية، إذن المادة لا تعتمد في وجودها على ذاتها، وكل ما يتحلل ويتحول يعد بالضرورة حادثاً، وليس بأزلي غير حادث. المادة الأزلية هي المادة التي لا خصائص أو صفات لها، وهى مادة لا توجد إلا في الأذهان، وهذا يعود بنا إلى الفلسفة مرة أخرى. وهذا ما يفسره الفيلسوف الألماني نيتشه في اعتقاده بأن الأنطولوجيا الغربية، بعد موت الإله (أي بعد ظهور العقلانية المادية)، احتفظت بظلال الإله في صورة الإيمان بالمادي الكلي والثابت والمتجاوز والذي له غاية وهدف. فقد نادى نيتشه بإزالة ظلال الإله تماماً والتخلي عن الميتافيزيقيا، والبحث عن الحقيقة المجرده التي تستلزم الثبات والكلية وتتجاوز العالم المادي.
انطلقت الفلسفة المادية من هذا المنظور العلمي والفلسفي الجديد، فقد أعطت أولوية سببية للعناصر المادية (قوانين الحركة). وسببية مادية صلبة ومطلقة للحالات الإنسانية، في إطار عنصر مادي واحد، على سبيل المثال، ماركس والعنصر الإنساني الاقتصادي، وفرويد والعنصر الإنساني الجنسي.
شاهد أيضاً: